تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 286 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 286

286 : تفسير الصفحة رقم 286 من القرآن الكريم

** ذَلِكَ مِمّآ أَوْحَىَ إِلَيْكَ رَبّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَـَهاً آخَرَ فَتُلْقَىَ فِي جَهَنّمَ مَلُوماً مّدْحُوراً
يقول تعالى: هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة, ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة, مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس, {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوم} أي تلومك نفسك ويلومك الله والخلق, {مدحور} أي مبعداً من كل خير, قال ابن عباس وقتادة: مطروداً, والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة الرسول صلى الله عليه وسلم, فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم.

** أَفَأَصْفَاكُمْ رَبّكُم بِالْبَنِينَ وَاتّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً
يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين, عليهم لعائن الله: أن الملائكة بنات الله, فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً, ثم ادعوا أنهم بنات الله, ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً, فقال تعالى منكراً عليهم {أفأصفاكم ربكم بالبنين} أي خصصكم بالذكور {واتخذ من الملائكة إناث} أي واختار لنفسه على زعمكم البنات, ثم شدد الإنكار عليهم فقال: {إنكم لتقولون قولاً عظيم} أي في زعمكم أن لله ولداً, ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكن لكم وربما قتلتموهن بالوأد, فتلك إداً قسمة ضيزى, وقال تعالى: {وقالوا اتخذ الرحمن ولداً * لقد جئتم شيئاً إدّاً * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولداً * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً * إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً, لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرد}.

** وَلَقَدْ صَرّفْنَا فِي هَـَذَا الْقُرْآنِ لِيَذّكّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً
يقول تعالى: {ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ, فينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك, {وما يزيدهم} أي الظالمين منهم {إلا نفور} أي عن الحق وبعداً منه.

** قُلْ لّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاّبْتَغَوْاْ إِلَىَ ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً * سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ عَمّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً
يقول تعالى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه, العابدين معه غيره, ليقربهم إليه زلفى لو كان الأمر كما يقولون, وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه, لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة, فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه, ولا حاجة لكم إلى معبود يكون وساطة بينكم وبينه, فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه, بل يكرهه ويأباه, وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه, ثم نزه نفسه الكريمة وقدّسها فقال: {سبحانه وتعالى عما يقولون} أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى {علواً كبير} أي تعالياً كبيراً, بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

** تُسَبّحُ لَهُ السّمَاوَاتُ السّبْعُ وَالأرْضُ وَمَن فِيهِنّ وَإِن مّن شَيْءٍ إِلاّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـَكِن لاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً
يقول تعالى: تقدسه السموات السبع والأرض ومن فيهن, أي من المخلوقات, وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون, وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته:
ففي كل شيء له آيةتدل على أنه واحد
كما قال تعالى: {تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً * أن دعوا للرحمن ولد} وقال أبو القاسم الطبراني: حدثنا علي بن عبد العزيز, حدثنا سعيد بن منصور, حدثنا مسكين بن ميمون مؤذن مسجد الرملة, حدثنا عروة بن رويم عن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به إلى المسجد الأقصى, كان بين المقام وزمزم, جبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره, فطارا حتى بلغ السموات السبع. فلما رجع قال: «سمعت تسبيحاً في السموات العلى مع تسبيح كثير سبحت السموات العلى, من ذي المهابة مشفقات لذي العلو بما علا, سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى».
وقوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} أي وما من شيء من المخلوقات إلا يسبح بحمد الله {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أي لا تفقهون تسبيحهم أيها الناس, لأنها بخلاف لغاتكم, وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات, وهذا أشهر القولين, كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وفي حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل, وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم, وهو حديث مشهور في المسانيد وقال الإمام أحمد: حدثنا حسن, حدثنا ابن لهيعة, حدثنا زبان عن سهل بن معاذ عن ابن أنس, عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل, فقال لهم «اركبوها سالمة ودعوها سالمة, ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق, فرب مركوبة خير من راكبها, وأكثر ذكراً لله منه».
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع, وقال «نقيقها تسبيح». وقال قتادة عن عبد الله بن أبي عن عبد الله بن عمرو أن الرجل إذا قال لا إله إلا الله, فهي كلمة الإخلاص التي لا يقبل الله من أحد عملاً حتى يقولها, وإذا قال: الحمد لله, فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها, وإذا قال: الله أكبر, فهي تملأ ما بين السماء والأرض, وإذا قال: سبحان الله, فهي صلاة الخلائق التي لم يدع الله أحداً من خلقه إلا قرره بالصلاة والتسبيح. وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله, قال: أسلم عبدي واستسلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وهب بن جرير, حدثنا أبي, سمعت الصّقعب بن زهير يحدث عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار, عن عبد الله بن عمرو قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي عليه جبة من طيالسة مكفوفة بديباج, أو مزورة بديباج, فقال: إن صاحبكم هذا يريد أن يرفع كل راع بن راع ويضع كل رأس بن رأس, فقام إليه النبي صلى الله عليه وسلم مغضباً فأخذ بمجامع جبته فاجتذبه فقال: «لا أرى عليك ثياب من لا يعقل» ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس, فقال: «إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال: إني قاص عليكما الوصية آمركما باثنتين, وأنهاكما عن اثنتين, أنهاكما عن الشرك بالله والكبر, وآمركما بلا إله إلا الله فإن السموات والأرض وما فيها لو وضعت لا إله إلا الله عليهما, لقصمتهما أو لفصمتهما, وآمركما بسبحان الله وبحمده, فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء» ورواه الإمام أحمد أيضاً عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن مصعب بن زهير به أطول من هذا وتفرد به.
وقال ابن جرير: حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي, حدثنا محمد بن يعلى عن موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم, عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشيء امر به نوح ابنه ؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله, فإنها صلاة الخلق وتسبيح الخلق, وبها يزرق الخلق» قال الله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} إسناده فيه ضعف, فإن الاودي ضعيف عند الأكثرين. وقال عكرمة في قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قال الأسطوانة تسبح والشجرة تسبح ـ الأسطوانة ـ السارية وقال بعض السلف: صرير الباب تسبيحه وخرير الماء تسبيحه قال الله تعالى {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وقال سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: الطعام يسبح, ويشهد لهذا القول آية السجدة في الحج, وقال آخرون: إنما يسبح ما كان فيه روح, يعنون من حيوان ونبات.
قال قتادة في قوله: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قال: كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه, وقال الحسن والضحاك في قوله {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قالا: كل شيء فيه الروح. وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن حميد, حدثنا يحيى بن واضح وزيد بن حباب, قالا: حدثنا جرير أبو الخطاب, قال كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في طعام, فقدموا الخوان, فقال يزيد الرقاشي: يا أبا سعد, يسبح هذا الخوان ؟ فقال: كان يسبح مرة ـ قلت: الخوان هو المائدة من الخشب ـ فكأن الحسن رحمه الله, ذهب إلى أنه لما كان حياً فيه خضرة كان يسبح, فلما قطع وصار خشبة يابسة انقطع تسبيحه, وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلممر بقبرين فقال «إنهما لعذبان وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول, وأما الاَخر فكان يمشي بالنميمة» ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين, ثم غرز في كل قبر واحدة, ثم قال «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا» أخرجاه في الصحيحين, قال بعض من تكلم على هذ الحديث من العلماء: إنما قال ما لم ييبسا لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة, فإذا يبسا انقطع تسبيحهما, والله أعلم.
وقوله {إنه كان حليماً غفور} أي لا يعاجل من عصاه بالعقوبة بل يؤجله وينظره, فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر, كما جاء في الصحيحين «إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته», ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة} الاَية, وقال تعالى: {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة} الاَية, وقال {كأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة} الاَيتين, ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان, ورجع إلى الله تاب إليه وتاب عليه, كما قال تعالى: {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله} الاَية, وقال ههنا {إنه كان حليماً غفور} كما قال في آخر فاطر {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليماً غفور} إلى أن قال {ولو يؤاخذ الله الناس} إلى آخر السورة.

** وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ حِجَاباً مّسْتُوراً * وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن, جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً. قال قتادة وابن زيد: هو الأكنة على قلوبهم, كما قال تعالى: {وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء. وقوله {حجاباً مستور} بمعنى ساتر كميمون ومشؤوم بمعنى يامن وشائم, لأنه من يمنهم وشؤمهم, وقيل: مستوراً عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى, ومال إلى ترجيحه ابن جرير رحمه الله.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي: حدثنا أبو موسى الهروي إسحاق بن إبراهيم, حدثنا سفيان عن الوليد بن كثير, عن يزيد بن تدرس, عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت: لما نزلت {تبت يدا أبي لهب} جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول: مذمماً أتينا ـ أو أبينا ـ قال أبو موسى: الشك مني, ودينه قلينا, وأمره عصينا, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر رضي الله عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك, فقال «إنها لن تراني» وقرأ قرآناً اعتصم به منها {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالاَخرة حجاباً مستور} قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا أبا بكر, بلغني أن صاحبك هجاني, قال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك, قال: فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني بنت سيدها.
وقوله: {وجعلنا على قلوبهم أكنة} وهي جمع كنان الذي يغشى القلب {أن يفقهوه} أي لئلا يفهموا القرآن {وفي آذانهم وقر} وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعاً ينفعهم ويهتدون به. وقوله تعالى: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} أي إذا وحدت الله في تلاوتك, وقلت لا إله إلا الله, {ولّوْ} أي أدبروا راجعين {على أدبارهم نفور} ونفور جمع نافر, وكقعود جمع قاعد, ويجوز أن يكون مصدراً من غير الفعل, والله أعلم. كما قال تعالى: {وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالاَخرة} الاَية, قال قتادة في قوله {وإذا ذكرت ربك في القرآن} الاَية, إن المسلمين لما قالوا لا إله إلا الله, أنكر ذلك المشركون, كبرت عليهم وضاقها إبليس وجنوده, فأبى الله إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها, إنها كلمة من خاصم بها فلح, ومن قاتل بها نصر, إنما يعرفها أهل هذه الجريزة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل, ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.

(قول آخر في الاَية)
روى ابن جرير: حدثني الحسين بن محمد الذارع, حدثنا روح بن المسيب أبو رجاء الكلبي, وحدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء, عن ابن عباس في قوله: {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولّوْوا على أدبارهم نفور} هم الشياطين, وهذا غريب جداً في تفسيرها, وإلا فالشياطين إذا قرىء القرآن أو نودي بالأذان أو ذكر الله انصرفوا.

** نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً * انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاؤوا يستمعون قراءته صلى الله عليه وسلم سراً من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السحر على المشهور, أو من السحر وهو الرئة, أي إن تتبعون إن اتبعتم محمداً إلا بشراً يأكل, كما قال الشاعر:
فإن تسألينا فيم نحن فإنناعصافير من هذا الأنام المسحر

وقال الراجز:
* نسحر بالطعام وبالشراب *
أي يغذي, وقد صوب هذا القول ابن جرير, وفيه نظر لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه, ومنهم من قال: شاعر. ومنهم من قال: كاهن. ومنهم من قال: مجنون ومنهم من قال: ساحر, ولهذا قال تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيل} أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصاً, قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة, خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته, فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه, وكل لا يعلم بمكان صاحبه, فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا, حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا, وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً, ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية, عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له, حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق, فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة, ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له, حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق, فقال بعضهم لبعض لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود, فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا, فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته, فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد. قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها, وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها, قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به. قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته, فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال: ماذا سمعت ؟ قال: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف: أطعموا فأطعمنا, وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا, حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان, قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء, فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. قال: فقام عنه الأخنس وتركه.